فصل: تفسير الآيات رقم (1- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 37‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

فأما سبب نزولها، فروى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ جاورت بِحِرَاء شهراً، فلما قضيت جواري، نزلتُ فاستَبْطَنْتُ بطن الوادي، فنوديتُ، فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي، فإذا هو في الهواء ‏(‏يعني‏:‏ جبريل عليه السلام‏)‏ فأقبلتُ إِلى خديجة، فقلت دَثِّروني دَثِّروني، فأنزل الله عز وجل ‏{‏يا أيها المدثر قم فأنذر‏}‏ ‏"‏ قال المفسرون‏:‏ فلما رأى جبريل وقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل إلى خديجة، ودعا بماءٍ فصبَّه عليه، وقال‏:‏ دثِّروني، فدثَّروه بقطيفة، فأتاه جبريل فقال ‏{‏يا أيها المدِّثر‏}‏ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، والأعمش، «المتدثِّر» بإظهار التاء‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وعكرمة، وابن يعمر، «المدثر» بحذف التاء، وتخفيف الدال‏.‏ قال اللغويون‏:‏ وأصل «المدَّثِّر» المتدثر، فأدغمت التاء، كما ذكرنا في المتَزَمِّل، وهذا في قول الجمهور من التدثير بالثياب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ يا أيها المدثر بالنبوَّة، وأثقالها، قال عكرمة‏:‏ دُثِّرْتَ هذا الأمر فقم به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قم فأنذر‏}‏ كفارَ مكة العذابَ إن لم يُوحِّدوا ‏{‏وربَّك فكبِّر‏}‏ أي‏:‏ عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان ‏{‏وثيابَك فطهِّر‏}‏ فيه ثمانية أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تلبسها على معصية، ولا على غدر‏.‏ قال غيلان بن سلمة الثقفي‏:‏

وَإني بِحَمْدِ الله لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ

روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا تكن ثيابُك من مكسب غير طاهر، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ طهر نفسك من الذنب، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ ويشهد له قول عنترة‏:‏

فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيَابَهُ *** لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ

أي‏:‏ نفسه، وهذا مذهب ابن قتيبة‏.‏ قال‏:‏ المعنى‏:‏ طهر نفسك من الذنوب، فكنى عن الجسم بالثياب، لأنها تشتمل عليه‏.‏ قالت ليلى الأخيلية وذَكَرَتْ إبلاً‏:‏

رَمَوْها بأثواب خِفَافٍ فلا ترى *** لَهَا شَبَهَاً إلا النَّعَام المُنَفَّرا

أي‏:‏ ركبوها، فَرَمَوْها بأنفسهم‏.‏ والعرب تقول للعفاف‏:‏ إزارٌ، لأن العفيف كأنه استتر لما عَفَّ‏.‏

والرابع‏:‏ وعَمَلَكَ فَأصْلِحْ، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ خُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قاله الحسن، والقرظي‏.‏

والسادس‏:‏ وَثِيَابَك فَقَصِّرْ وشَمِّرْ، قاله طاووس‏.‏

والسابع‏:‏ قَلْبَكَ فَطَهِّرْ، قاله سعيد بن جبير‏.‏ ويشهد له قول امرئ القيس‏:‏

فَإنْ يَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِني خَلِيقَةٌ *** فَسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ

أي‏:‏ قلبي من قلبك‏.‏

والثامن‏:‏ اغسل ثيابك بالماء، ونقِّها، قاله ابن سيرين، وابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم، إِلا أبا بكر، ويعقوب، وابن محصين، وابن السميفع، «والرُّجزَ» بضم الراء‏.‏ والباقون‏:‏ بكسرها‏.‏ ولم يختلفوا في غير هذا الموضع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى القراءتين واحد‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ قراءة الحسن بالضم، وقال‏:‏ هو اسم صنم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ صنمان‏:‏ إساف، ونائلة، ومن كسر، فالرّجز‏:‏ العذاب‏.‏ فالمعنى‏:‏ ذو العذاب فاهجر‏.‏

وفي معنى «الرجز» للمفسرين ستة أَقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الأصنام، والأوثان، قاله ابن عباس‏.‏ ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الإثم، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ الشرك، قاله ابن جبير، والضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ الذنب، قاله الحسن‏.‏

والخامس‏:‏ العذاب، قاله ابن السائب، قال الزجاج‏:‏ الرجزُ في اللغة‏:‏ العذاب‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله‏.‏

والسادس‏:‏ الشيطان، قاله ابن كيسان‏.‏ ‏{‏ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، قال المفسرون‏:‏ معناه‏:‏ أَعْطِ لِربّك وأرد به الله، فأدَّبه بأشرفِ الآداب‏.‏ ومعنى «لا تمنن»‏:‏ لا تعط شيئاً من مالك لتُعطَى أكثر منه، وهذا الأدب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته إثم أن يهديَ هدية يرجو بها ثواباً أكثر منها‏.‏

والثاني‏:‏ لا تمنن بعملك تستكثره على ربك، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ لا تمنن على الناس بالنُّبُوَّة لتأخذ عليها منهم أجراً، قاله ابن زيد‏.‏ ‏{‏ولربك‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لأجل ربك‏.‏ والثاني‏:‏ لثواب ربك‏.‏ والثالث‏:‏ لأمر ربك‏.‏ والرابع‏:‏ لوعْدِ ربِّك ‏{‏فاصبر‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ على طاعته وفرائضه‏.‏

والثاني‏:‏ على الأذى والتكذيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا نقر في الناقور‏}‏ أي‏:‏ نفخ في الصور‏.‏ وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية‏؟‏ فيه قولان ‏{‏فذلك يومئذ يوم عسير‏}‏ أي‏:‏ يعسر الأمر فيه ‏{‏على الكافرين غير يسير‏}‏ غير هَيِّن ‏{‏ذَرْني‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏ومن خلقتُ‏}‏ أي‏:‏ ومن خلقته ‏{‏وحيداً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ خلقته وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ خلقته وحدي لم يَشْركني في خَلْقِهِ أحَدٌ، قاله الزجاج‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال‏:‏ يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً‏.‏ فإِنك أتيت محمداً تتعرَّض لما قِبَله، فقال‏:‏ قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال‏:‏ فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنَّك منكر له، قال‏:‏ وماذا أقول‏؟‏ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، فوالله ما يشبهها الذي يقول، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى‏.‏ قال‏:‏ لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال‏:‏ فدعني حتى أفكر فيه‏.‏ فقال‏:‏ هذا سحر يؤثر‏:‏ يأثره عن غيره، فنزلت ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات كلُّها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قال الوليد لقريش‏:‏ إن لي إِليكم حاجة فاجتمعوا في دار الندوة، فقال‏:‏ إنكم ذوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد‏.‏

ما تقولون في هذا الرجل‏؟‏ قالوا‏:‏ نقول إِنه شاعر، فعبس عندها، وقال‏:‏ قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر‏.‏ فقالوا‏:‏ نقول‏:‏ إنه كاهن، قال‏:‏ إِذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة، قالوا‏:‏ نقول‏:‏ إِنه مجنون، قال‏:‏ إذن يأتونه فلا يجدونه مجنوناً‏.‏ فقالوا‏:‏ نقول‏:‏ إنه ساحر‏.‏ قال‏:‏ وما الساحر‏؟‏ قالوا بشر يحبِّبون بين المتباغضين، ويبغِّضون بين المتحابين، قال‏:‏ فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إِلا قال‏:‏ يا ساحر، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله عز وجل «يا أيها المدثر» إِلى قوله تعالى «إنْ هذا إِلا سحر يؤثر» وذكر بعض المفسرين‏:‏ أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ منسوخ بآية السيف، ولا يصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلت له مالاً ممدوداً‏}‏ في معنى الممدود ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ كثيراً، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثاني دائماً، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ غير منقطع، قاله الزجاج‏.‏

وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ غَلَّة شهر بشهر قاله عمر بن الخطاب‏.‏

والثاني‏:‏ ألف دينار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، قال الفراء‏:‏ نرى أن الممدود‏:‏ جُعِلَ غاية للعدد، لأن «ألف» غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف‏.‏

والثالث‏:‏ أربعة آلاف، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاءً ولا صيفاً، قاله قاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبنين شهوداً‏}‏ أي‏:‏ حضورا معه لا يحتاجون إلى التصرُّف والسَّفر فيغيبوا عنه‏.‏ وفي عددهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ عشرة، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ ثلاثة عشر، قاله ابن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ اثنا عشر، قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ سبعة، قاله مقاتل‏.‏ ‏{‏ومهَّدت له تمهيداً‏}‏ أي‏:‏ بسطت له العيش، وطول العمر، ‏{‏ثم يطمع أن أزيد‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يطمع أن أدخله الجنة، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ أن أزيده من المال والولد، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ لا أفعل، فمنعه الله المالَ والوَلدَ حتى مات فقيراً ‏{‏إنه كان لآياتنا عنيداً‏}‏ أي‏:‏ معانداً‏.‏

وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه القرآن، قاله ابن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ الحق، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأُرْهِقُه صَعُوداً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ سأحمله على مشقة من العذاب‏.‏ وقال غيره‏:‏ سأكلِّفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها، وقال ابن قتيبة‏:‏ «الصَّعود»‏:‏ العقبة الشاقة، وكذلك «الكؤود»‏.‏ وفي حديث أبي سعيد عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ «سأرهقه صَعوداً» قال‏:‏ جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع رجله عليها ذابت، فإذا رفعها عادت‏.‏ يصعد سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً، وذكر ابن السائب، أنه جبل من صخرة ملساء في النار، يكلَّف أن يصعَدها حتى إِذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلَّف أن يصعَدها، فذلك دأبه أبداً، يجذب من أمامه سلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّه فَكَّر‏}‏ أي‏:‏ تفكر ماذا يقول في القرآن ‏{‏وقَدَّر‏}‏ القول في نفسه ‏{‏فقُتِلَ‏}‏ أي‏:‏ لعن ‏{‏كيف قَدَّر ثم قُتِلَ كيف قَدَّر‏}‏ أي‏:‏ لُعِن على أي حال قَدَّر ما قدَّر من الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ «كيف» هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ‏.‏ وإنما كرر تأكيداً ‏{‏ثم نَظَرَ‏}‏ في طلب ما يدفع به القرآن، ويردُّه ‏{‏ثم عبس وبسر‏}‏ قال اللغويون‏:‏ أي‏:‏ كَرَّهَ وَجْهَهُ وقطَّب‏.‏ يقال‏:‏ بسر الرجل وجهه، أي‏:‏ قبضه‏.‏ وأنشدوا لتَوْبَةَ‏:‏

وقَدْ رَابَني مِنْها صُدُودٌ رَأَيْتُهُ *** وَإِعْرَاضُها عن حَاجتي وبُسُورُها

قال المفسرون‏:‏ كرَّه وجهه، ونظر بكراهية شديدة، كالمهتمّ المتفكِّر في الشيء ‏{‏ثم أدبر‏}‏ عن الإيمان ‏{‏واستكبر‏}‏ أي‏:‏ تكبر حين دعي إليه ‏{‏فقال إنْ هذا‏}‏ أي‏:‏ ما هذا القرآن ‏{‏إلا سحر يؤثر‏}‏ أي‏:‏ يُروى عن السَّحَرة ‏{‏إنْ هذا إِلا قول البشر‏}‏ أي‏:‏ من كلام الإنس، وليس من كلام الله تعالى، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سأُصليه سقر‏}‏ أي‏:‏ سأدخله النار‏.‏ وقد ذكر «سقر» في سورة ‏[‏القمر‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏وما أدراك ما سقر‏}‏ لِعِظَم شَأْنِها ‏{‏لا تُبقي ولا تذر‏}‏ أي‏:‏ لا تبقي لهم لحماً إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أُعيدوا خلقاً جديداً ‏{‏لَوَّاحَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مغيِّرة‏.‏ يقال‏:‏ لاحته الشمس، أي‏:‏ غيَّرتْه وأنشدوا‏:‏

يا ابْنَةَ عَمِّي لاَحَني الهواجر *** وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن أبي عبلة، «لوَّاحةً» بالنصب‏.‏ وفي البَشَر قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، وهذا قول مجاهد، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الإنس من أهل النار، قاله الأخفش، وابن قتيبة، في آخرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ وهم خُزَّانها، مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كَفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر‏.‏ قد نزعت منهم الرحمة‏.‏ فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل‏:‏ يخوِّفكم محمد بتسعة عشر، أما له من الجنود إلا هؤلاء‏!‏ أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم، ثم يخرجون من النار‏!‏ فقال أبو الأشدين‏:‏ قال مقاتل‏:‏ اسمه‏:‏ أسيد بن كلدة‏.‏ وقال غيره‏:‏ كلدة بن خلف الجمحي‏:‏ يا معشر قريش‏:‏ أنا أمشي بين أيديكم فأرفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى ‏{‏وما جعلنا أصحاب النار إِلا ملائكة‏}‏ لا آدميين، فمن يطيقهم ومن يغلبهم‏؟‏‏!‏ ‏{‏وما جعلنا عِدَّتهم‏}‏ في هذه القِلَّة ‏{‏إلا فتنة‏}‏ أي‏:‏ ضلالة ‏{‏للذين كفروا‏}‏ حتى قالوا ما قالوا ‏{‏ليستيقن الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أن ما جاء به محمد حق، لأن عِدَّتهم في التوراة تسعة عشر ‏{‏ويزدادَ الذين آمنوا‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏إِيماناً‏}‏ أي‏:‏ تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم موافقاً لما في كتابهم ‏{‏ولا يرتابَ الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون‏}‏ أي‏:‏ ولا يشك هؤلاء في عَدَدِ الخَزَنَة ‏{‏وليقولَ الذين في قلوبهم مرض‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه النفاق، ذكره الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الشك، قاله مقاتل‏.‏ وزعم أنهم يهود أهل المدينة، وعنده أن هذه الآية مدنية‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الخلاف، قاله الحسين بن الفضل‏.‏ وقال‏:‏ لم يكن بمكة نفاق‏.‏ وهذه مكية‏.‏ فأما «الكافرون» فهم مشركو العرب ‏{‏ماذا أراد الله‏}‏ أي‏:‏ أي شيء أراد الله ‏{‏بهذا‏}‏ الحديث والخبر ‏{‏مثلاً‏}‏ والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ يقولون‏:‏ ما هذا من الحديث ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما أضلَّ من أنكر عَدَد الخَزَنَة، وهدى من صدَّق ‏{‏يُضِلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ وأُنزل في قول أبي جهل‏:‏ أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر‏:‏ ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏ يعني‏:‏ من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار‏.‏ وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلا الله‏.‏ وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر قولاً محتملاً، فقال‏:‏ التسعة عشر‏:‏ عدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، لأن الآحاد أقل الأعداد، وأكثرها تسعة، وما سوى الآحاد كثير‏.‏ وأقل الكثير‏:‏ عشرة، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير، وأكثر القليل‏.‏ ثم رجع إلى ذكر النار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هي إلا ذكرى‏}‏ أي‏:‏ ما النار في الدنيا إلا مذكِّرة لنار الآخرة ‏{‏كلاَّ‏}‏ أي‏:‏ حقاً ‏{‏والقمر‏.‏ والليل إذْ أدبر‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «إذا أدبر» وقرأ نافع، وحمزة، وحفص، والفضل عن عاصم، ويعقوب «إذ» بسكون الذال من غير ألف بعدها «أدبر» بسكون الدال وبهمزة قبلها‏.‏ وهل معنى القراءتين واحد، أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهما لغتان بمعنى واحد‏.‏ يقال‏:‏ دبر الليل، وأدبر‏.‏ ودبر الصيف وأدبر، هذا قول الفراء، والأخفش، وثعلب‏.‏

والثاني‏:‏ أن «دبر» بمعنى خلف، «وأدبر» بمعنى وَّلى‏.‏ يقال‏:‏ دبرني فلان‏:‏ جاء خلفي، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا أسفر‏}‏ أي‏:‏ أضاء وتبيَّن ‏{‏إنها‏}‏ يعني‏:‏ سقر ‏{‏لإحدى الكُبَر‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الكُبَر، جمع كبرى، مثل الأُوَل، والأُولى، والصُّغَر، والصُّغْرى‏.‏ وهذا كما يقال‏:‏ إنها لإحدى العظائم‏.‏ قال الحسن‏:‏ والله ما أنذر الله بشيءٍ أوهى منها‏.‏

وقال ابن السائب، ومقاتل‏:‏ أراد بالكُبَر‏:‏ دركات جهنم السبعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نذيراً للبشر‏}‏ قال الزجاج‏:‏ نصب «نذيراً» على الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ إِنها لكبيرة في حال الإنذار‏.‏ وذَكَّر «النذير»، لأن معناه معنى العذاب‏.‏ ويجوز أن يكون «نذيراً» منصوباً متعلقاً بأول السورة، على معنى‏:‏ قم نذيراً للبشر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم‏}‏ بدل من قوله تعالى‏:‏ «للبشر»، ‏{‏أن يتقدَّم أو يتأخَّر‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن يتقدَّم في طاعة الله أو يتأخَّر عن معصيته، قاله ابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتقدَّم إلى النار، أو يتأخَّر عن الجنة، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أن يتقدَّم في الخير، أو يتأخر إلى الشر، قاله يحيى بن سلام‏.‏

والرابع‏:‏ أن يتقدَّم في الإيمان، أو يتأخَّر عنه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الإِنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 56‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ كل نفس بالغةٍ مُرتَهنةٌ بعملها لتُحاسَب عليه ‏{‏إلا أصحاب اليمين‏}‏ وهم أطفال المسلمين، فإنه لا حساب عليهم، لأنه لا ذنوب لهم، قاله علي، واختاره الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ كل نفس من أهل النار مُرتَهنةٌ في النار، إلا أصحاب اليمين، وهم المؤمنون، فإنهم في الجنة، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ كل نفس مرتهنةٌ بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتساءلون عن المجرمين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار‏:‏ ‏{‏ما سلككم في سقر‏؟‏‏}‏ قال المفسرون‏:‏ سلككم بمعنى‏:‏ أدخلكم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ما حبسكم فيها‏؟‏ ‏{‏قالوا لم نك من المصلين‏}‏ لله في دار الدنيا ‏{‏ولم نك نطعم المسكين‏}‏ أي‏:‏ لم نتصدَّق لله ‏{‏وكنا نخوض مع الخائضين‏}‏ أهل الباطل والتكذيب ‏{‏وكنا نكذِّب بيوم الدين‏}‏ أي‏:‏ بيوم الجزاء والحساب ‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ وهو الموت‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏ وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين‏.‏ وهذا يدل على نفع الشفاعة لمن آمن ‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين‏؟‏‏}‏ يعني‏:‏ كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه‏.‏ والمعنى‏:‏ لا شيء لهم في الآخرة إِذْ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به، ثم شبَّههم في نفورهم عنه بالحُمُر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة‏}‏ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء‏.‏ والباقون‏:‏ بكسرها‏.‏ قال أبو عبيدة، وابن قتيبة‏:‏ من قرأ بفتح الفاء أراد‏:‏ مذعورة، استنفرت فنفرت‏.‏ ومن قرأ بكسر الفاء أراد‏:‏ نافرة‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ حُمُرٌ مستنفَرة‏.‏ وناس من العرب يكسرون الفاء‏.‏ والفتح أكثر في كلام العرب‏.‏ وقراءتنا بالكسر‏.‏ أنشدني الكسائي‏:‏

اِحْبِسْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ *** في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ

و«غرّب» موضع‏.‏

وفي «القسورة» سبعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الأسد، رواه يوسف بن مهران، عن ابن عباس‏.‏ وبه قال أبو هريرة، وزيد بن أسلم، وابنه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الحمر الوحشية إذا عايَنَتْ الأسد هَرَبَتْ منه، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم هربوا منه، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، والزجاج‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كأنَّه من القَسْرِ والقَهْرِ، فالأسد يقهر السباع‏.‏

والثاني‏:‏ أن القسورة‏:‏ الرماة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وابن كيسان‏.‏

والثالث‏:‏ أن القسورة‏:‏ حِبَال الصيادين، رواه عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم عُصَبُ الرِّجَال، رواه أبو حمزة عن ابن عباس‏.‏ واسم أبي حمزة‏:‏ نصر بن عمران الضبعي‏.‏

والخامس‏:‏ أنه رِكْز الناس، وهذا في رواية عطاء أيضاً عن ابن عباس‏.‏

ورِكْز الناس‏:‏ حِسُّهم وأصواتهم‏.‏

والسادس‏:‏ أنه الظُّلْمة والليل، قاله عكرمة‏.‏

والسابع‏:‏ أنه النَّبْل، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يريد كل امرئ منهم أن يُؤتَى صُحُفاً مُنَشَّرةً‏}‏ فيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن سَرَّك أن نَتَّبِعْك، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتِّباعك، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أرادوا براءةً من النار أن لا يعذَّبوا بها، قاله أبو صالح‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ كان الرجل إذا أذنب في بَني إسرائيل وجده مكتوباً إذا أصبح في رُقعة‏.‏ فما بالنا لا نرى ذلك‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله الفراء‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ لا يؤتَون الصُّحُف ‏{‏بل لا يخافون الآخرة‏}‏ أي‏:‏ لا يَخْشَوْن عذابها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة ‏{‏كلاَّ‏}‏ أي‏:‏ حقاً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏كلا‏}‏ ليس الأمر كما يريدون ويقولون ‏{‏إنه تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ تذكير وموعظة ‏{‏فمن شاء ذَكره‏}‏ الهاء عائدة على القرآن فالمعنى‏:‏ فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه، ذَكره‏.‏ ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يذكرون إلا أن يشاء الله‏}‏ أي‏:‏ إلا أن يريد لهم الهدى ‏{‏هو أهل التقوى‏}‏ أي‏:‏ أهل أن يُتَّقى ‏{‏وأهل المغفرة‏}‏ أي‏:‏ أهل أن يَغفِر لمن تاب‏.‏ روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، فقال‏:‏ قال ربكم عز وجل‏:‏ أنا أهل أن أُتقى، فلا يشرك بي غيري‏.‏ وأنا أهل لمن اتَّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أقسم‏}‏ اتفقوا على أن المعنى «أقسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلمَ أهلُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث‏.‏ ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ زيدت «لا» على نية الرد على المكذبين، كما تقول‏:‏ لا والله ما ذاك، ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد‏.‏ وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام، فجعلت لاما دخلت على «أقسم»، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، قال الزجاج‏:‏ من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد‏.‏ وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول‏:‏ لأَضربنَّ زيداً‏.‏ ولا يجوز‏:‏ لأَضْرِبُ زيداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أُقْسِمُ بالنَّفْس اللَّوامة‏}‏ قال الحسن‏:‏ أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حكمها حكم الأولى‏.‏

وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها المذمومة، قاله ابن عباس‏.‏ فعلى هذا‏:‏ هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن‏.‏ قال‏:‏ لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال‏.‏

والثالث‏:‏ أنها جميع النفوس‏.‏ قال الفراء‏:‏ ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً‏.‏ قال‏:‏ هلا زِدْت‏.‏ وإن كانت عملت سوءاً قال‏:‏ ليتني لم أفعل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ المراد بالإنسان هاهنا‏:‏ الكافر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يريد أبا جهل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عدي بن ربيعة، وذلك أنه قال‏:‏ أيجمع الله هذه العظام‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له‏:‏ «نعم»، فاستهزأَ مِنْه فنزلت هذه الآية‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وجواب القسم محذوف، كأنه‏:‏ لتُبْعَثُنَّ، لَتُحَاسَبُنَّ، فدل قوله تعالى‏:‏ «أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه» على الجواب، فحذف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ وقف حسن‏.‏ ثم يُبتدأ «قادرين» على معنى‏:‏ بلى نجمعها قادرين‏.‏ ويصلح نصب «قادرين» على التكرير بل فَلْيَحْسَبْنَا قادرين ‏{‏على أن نُسَوِيَّ بَنَانَهُ‏}‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج‏.‏ وقد بينا معنى البنان في ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يريد الإنسان ليفجر أمامه‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول‏:‏ سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير‏.‏ فعلى هذا‏:‏ يكون المراد بالإنسان‏:‏ المسلم‏.‏

وعلى الأول‏:‏ الكافر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏ أي‏:‏ متى هو‏؟‏ تكذيباً به، وهذا هو الكافر ‏{‏فإذا برق البصر‏}‏ قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، والباقون بكسرها‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب تقول‏:‏ بَرِق البصر يبرَق، وبَرَق يبرُق، إذا رأى هولاً يفزع منه، و«بَرِق» أكثر وأجود قال الشاعر‏:‏

فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني *** ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ تَبْرَقِ

بالفتح‏.‏ يقول‏:‏ لا تفزع من هول الجراح التي بك‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يَطْرِفُ لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا، وقال مجاهد‏:‏ برق البصر عند الموت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخسف القمر‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كَسَف وخَسَف بمعنى واحد، أي‏:‏ ذهب ضوؤه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجُمِع الشَّمسُ والقمر‏}‏ إنما قال «جمع» لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنما لم يقل‏:‏ جُمِعَتْ، لأن المعنى‏:‏ جمع بينهما‏.‏ وفي معنى الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ جمع بين ذاتَيْهما‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ جمعا كالبعيرين القرينين‏.‏ وقال عطاء بن يسار‏:‏ يُجْمَعَان ثم يُقْذَفَان في البحر‏.‏ وقيل‏:‏ يُقْذَفَان في النار‏.‏ وقيل‏:‏ يجمعان، فيطلعان من المغرب‏.‏

والثاني‏:‏ جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ المكذِّب بيوم القيامة ‏{‏أين المفر‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة‏:‏ بكسر الفاء قال الزجاج‏:‏ فمن فتح، فالمعنى‏:‏ أين الفرار‏؟‏ ومن كسر، فالمعنى‏:‏ أين مكان الفرار‏؟‏ تقول‏:‏ جلست مجلَساً بالفتح، يعني‏:‏ جلوساً‏.‏ فإذا قلت‏:‏ مجلِساً بالكسر، فأنت تريد المكان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا لا وزر‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لا ملجأ‏.‏ وأصل الوزر‏:‏ الجبل‏.‏ الذي يمتنع فيه ‏{‏إِلى ربك يومئذ المستقر‏}‏ أي‏:‏ المنتهى والمرجع‏.‏

‏{‏يُنَبَّأ الإنسان يومئذ بما قَدَّم وأَخَّر‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بما قدَّم قبل موته، وما سنَّ من شيء فعُمِل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يُنَبَّأُ بأوَّل عمله وآخره، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ بما قدَّم من الشَّرِّ وأخَّر من الخير، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ بما قدَّم من فرض، وأخَّر من فرض، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ بما قدَّم من معصية، وأخَّر من طاعة‏.‏

والسادس‏:‏ بما قدَّم من أمواله، وما خلَّف للورثة، قاله زيد بن أسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الإنسان على نفسه بصيرة‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي‏:‏ رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي‏:‏ الجوارح‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذكر، كما جاءت في رجل «راوية»، و«طاغية»، وعلاَّمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ألقى معاذيره‏}‏ في المعاذير قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع عذر، فالمعنى‏:‏ لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذَّب عذره، وهي‏:‏ الجوارح، وهذا قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعاذير جمع معذار، وهو‏:‏ الستر‏.‏ والمعاذير‏:‏ الستور‏.‏ فالمعنى‏:‏ ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، والزجاج، فيخرج في معنى «ألقى» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ قال، ومنه ‏{‏فألْقَوا إليهم القول‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وهذا على القول الأول‏:‏

والثاني‏:‏ أرخى، وهذا على القول الثاني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 25‏]‏

‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرِّك به لسانك‏}‏ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حِفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يُحرِّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفَظه، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ومعناها‏:‏ لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه ‏{‏إِن علينا جمعه وقرآنه‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ ضمَّه وجمعه في صدرك ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏ أي‏:‏ جمعناه ‏{‏فاتبع قرآنه‏}‏ أي‏:‏ جمعه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ يعني‏:‏ اقرأ إذا فرغ جبريل من قراءته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فاتِّبع قرآنه، أي‏:‏ اعمل به‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فاتبع حلاله وحرامه ‏{‏ثم إنَّ علينا بيانه‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ نبيِّنه بلسانك، فتقرؤه كما أقرأك جبريل‏.‏ وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ إِن علينا أن نجزيَ به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ إِن علينا بيان ما فيه من الأحكام، والحلال، والحرام، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً، فيه بيان للناس، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ قال عطاء‏:‏ أي‏:‏ لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، وقال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تُبْعَثُون، ولكن دعاكم إلى قِيلِ ذلك مَحَبَّتُكم للعاجلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل تحبون العاجلة‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «بل يحبون العاجلة ويذرون» بالياء فيهما‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء فيهما‏.‏ والمراد‏:‏ كفار مكة، يحبونها ويعملون لها «ويذرون الآخرة» أي‏:‏ يتركون العمل لها إيثاراً للدنيا عليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة‏}‏ أي‏:‏ مشرقة بالنعيم ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ روى عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ إلى الله ناظرة‏.‏ قال الحسن‏:‏ حق لها أن تَنْضَر وهي تنظر إلى الخالق، وهذا مذهب عكرمة‏.‏ ورؤية الله عز وجل حق لا شك فيها‏.‏ والأحاديث فيها صحاح، قد ذكرتُ جملة منها في «المغني» و«الحدائق»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجوه يومئذ باسرة‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ عابسة مقطِّبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تظن‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ تعلم، و«الفاقرة» الداهية‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ إنه من فَقارة الظهر، كأنها تكسره، يقال فَقَرْتُ الرجل‏:‏ إذا كسرتَ فَقارَه، كما يقال‏:‏ رَأَسْتُه‏:‏ إذا ضربتَ رأْسَه‏.‏ وبَطَنْتُه‏:‏ إذا ضَرَبْتَ بَطْنَه‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ والفاقرة‏:‏ دخول النار‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ هي أن تُحْجَبَ عن ربها، فلا تنظر إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 40‏]‏

‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «كلا» ردع وتنبيه‏.‏ المعنى‏:‏ ارتَدِعوا عما يؤدِّي إلى العذاب‏.‏ وقال غيره‏:‏ معنى «كلا»‏:‏ لا يُؤْمِنُ الكافر بهذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا بلغت‏}‏ يعني‏:‏ النفس‏.‏ وهذه كناية عن غير مذكور‏.‏ و«التراقي» العظام المكتنفة لنُقْرَة النَّحر عن يمين وشمال‏.‏ وواحدة التراقي‏:‏ تَرْقوة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ‏{‏وقيل مَنْ راق‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قول الملائكة بعضهم لبعض‏:‏ من يرقى روحه، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب‏؟‏ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قول أهله‏:‏ هل مِنْ رَاقٍ يَرْقيه بالرُّقى‏؟‏ وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو قلابة، وقتادة، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظن‏}‏ أي‏:‏ أيقن الذي بلغت روحه التراقيَ ‏{‏أنه الفِرَاق‏}‏ للدنيا ‏{‏والتفَّت الساق بالساق‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أمر الدنيا بأمر الآخرة، رواه الوالبي عن ابن عباس‏:‏ وبه قال مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ اجتمع فيه الحياة والموت، قاله الحسن، وعن مجاهد كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ التفت ساقاه في الكفن، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

والرابع‏:‏ التفت ساقاه عند الموت، قاله الشعبي‏.‏

والخامس‏:‏ الشدة بالشدة، قاله قتادة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذ المساق‏}‏ أي‏:‏ إلى الله المنتهى ‏{‏فلا صدَّق ولا صلَّى‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ «لا» هاهنا في موضع «لم»‏.‏ قال المفسرون‏:‏ هو أبو جهل ‏{‏ولكن كذَّب وتولَّى‏}‏ عن الإيمان ‏{‏ثم ذهب إِلى أهله يتمطَّى‏}‏ أي‏:‏ رجع إليهم يتبختر ويختال‏.‏ قال الفراء «يتمطَّى» أي يتبختر، لأن الظهر هو المَطَا، فيلوي ظهره متبختراً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أصله يتمطط، فقلبت الطاء فيه ياء، كما قيل‏:‏ يتظنّى، وأصله‏:‏ يتظنن، ومنه المشية المُطَيْطَاء‏.‏ وأصل الطاء في هذا كله دال‏.‏ إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر‏.‏ يقال‏:‏ مَطَطتُ ومَدَدتُ بمعنى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولى لك فأولى‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هو تهديد ووعيد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ العرب تقول‏:‏ أولى لفلان‏:‏ إِذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه‏:‏ وليك المكروه يا أبا جهل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ أبا جهل ‏{‏أن يُتْرَك سُدى‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب، يقال‏:‏ أسديت الشيء، أي‏:‏ أهملته‏.‏ ثم دل على البعث بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يك نطفةً من مَنِيٍّ يُمْنَى‏}‏ قرأ أبن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي وأبو بكر عن عاصم «تُمْنَى» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، ويعقوب «يُمْنَى» بالياء‏.‏ وعن أبي عمرو كالقراءتين‏.‏ وقد شرحنا هذا في ‏[‏النجم‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏ثم كان علقةً‏}‏ بعد النطفة ‏{‏فَخَلَق‏}‏ فيه الروح، وسَوَّى خلقه ‏{‏فجعل منه‏}‏ أي‏:‏ خَلَقَ من مائه أولاداً ذكوراً وإناثاً ‏{‏أليس ذلك‏}‏ الذي فعل هذا ‏{‏بقادرٍ‏؟‏‏}‏ وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري «يقدر» ‏{‏على أن يحيي الموتى‏؟‏‏!‏‏}‏ وهذا تقرير لهم، أي‏:‏ إن من قَدَر على الابتداء قَدَر على الإعادة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا قرأ أحدكم هذه الآية، فليقل‏:‏ اللهم بلى‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتى‏}‏ قال الفراء‏:‏ معناه‏:‏ قد أتى‏.‏ و«هل» تكون خبراً، وتكون جحداً، فهذا من الخبر، لأنك تقول‏:‏ هل وعظتك‏؟‏ هل أعطيتك‏؟‏ فتقرِّره بأنك قد فعلت ذلك‏.‏ والجحد، أن تقول‏:‏ وهل يقدر أحد على مثل هذا‏؟‏ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة‏.‏ وفي هذا الإنسان قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه آدم عليه السلام‏.‏ والحين‏.‏ الذي أتى عليه‏:‏ أربعون سنة، وكان مصوَّراً من طين لم يُنُفَخ فيه الروح، هذا قول الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة، ومضغة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ المعنى‏:‏ أنه كان شيئاً، غير أنه لم يكن مذكوراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقنا الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ ولد آدم ‏{‏من نطفة أمشاج‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ أخلاط‏.‏ يقال‏:‏ مشجته، فهو مشيج، يريد‏:‏ اختلاط ماء المرأة بماء الرجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نبتليه‏}‏ قال الفراء‏:‏ هذا مقدَّم، ومعناه التأخير، لأن المعنى‏:‏ خلقناه وجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ جعلناه كذلك لنختبره‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل‏}‏ أي‏:‏ بيَّنَّا له سبيل الهدى بنصب الأَدلة، وبعث الرسول ‏{‏إما شاكراً‏}‏ أي‏:‏ خلقناه إما شاكراً ‏{‏وإما كفوراً‏}‏ قال الفراء‏:‏ بيَّنَّا له الطريق إن شكر، أو كفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 31‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة‏:‏ «سلاسل» بغير تنوين ووقفوا بألف‏.‏ ووقف أبو عمرو بألف‏.‏ قال مكي بن أبي طالب النحوي‏:‏ «سلاسل» و«قوارير» أصله أن لا ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب‏.‏ وقيل‏:‏ إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف‏.‏ قال مقاتل‏:‏ السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم‏.‏ وقد شرحنا معنى «السعير» في ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الأبرار‏}‏ واحدهم بَرٌّ، وبَارٌّ، وهم الصادقون‏.‏ وقيل‏:‏ المطيعون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هم الذين لا يؤذون الذَّر ‏{‏يشربون من كأس‏}‏ أي‏:‏ من إناءٍ فيه شراب ‏{‏كان مزاجها‏}‏ يعني‏:‏ مزاج الكأس ‏{‏كافوراً‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في المراد «بالكافور» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ برده، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ ريحه، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ طعمه، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ مزاجها كالكافور لطيب ريحه، أجازه الفراء، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عيناً‏}‏ قال الفراء‏:‏ هي المفسرة للكافور، وقال الأخفش‏:‏ هي منصوبة على معنى‏:‏ أعني عيناً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأجود أن يكون المعنى‏:‏ من عين، ‏{‏يشرب بها‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ يشرب منها‏.‏ والثاني‏:‏ يشربها، والباء صلة‏.‏ والثالث‏:‏ يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها‏.‏ وفي هذه العين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الكافور الذي سبق ذكره‏.‏

والثاني‏:‏ التسنيم، و‏{‏عباد الله‏}‏ هاهنا‏:‏ أولياؤه ‏{‏يفجِّرونها تفجيراً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة‏.‏ قال الفراء‏:‏ حيث ما أحب الرجل من أهل الجنة فجرَّها لنفسه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ قال الفراء‏:‏ فيه إضمار «كانوا» يوفون بالنذر‏.‏ وفيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة‏.‏ ومعنى «النذر» في اللغة‏:‏ الإيجاب‏.‏ فالمعنى‏:‏ يوفون بالواجب عليهم ‏{‏ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فاشياً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ فاشياً منتشراً‏.‏ يقال‏:‏ استطار الحريق‏:‏ إِذا انتشر، واستطار الفجر‏:‏ إذا انتشر الضوء‏.‏ وأنشدوا للأعشى‏:‏

فَبَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ في الفُؤَا *** دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِها مُسْتَطِيراً

وقال مقاتل‏:‏ كان شرُّه فاشياً في السموات، فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكوِّرت الشمس والقمر في الأرض، ونُسِفَتْ الجبال، وغَارَت المياه، وتكَسَّر كل شيء على وجه الأرض من جبلٍ، وبناءٍ، وفَشَا شَرُّ يوم القيامة فيهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطعام على حُبِّه‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب‏.‏ آجر نفسه ليسقي نخلاً بشيء من شعيرٍ ليلة حتى أصبح‏.‏ فلما قبض الشعير طحن ثلثه، وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي، فلما استوى جاء أسير من المشركين، فأطعموه وطوَوْا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوماً، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

وفي هاء الكناية في قوله تعالى «على حُبِّه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يُؤْثِرُون وهم محتاجون إليه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني‏.‏ وقد سبق معنى «المسكين واليتيم» ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وفي الأسير أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المسجون من أهل القبلة، قاله عطاء، ومجاهد، وابن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي‏.‏

والرابع‏:‏ العبد، ذكره الماوردي‏.‏

فصل

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك‏.‏ قال‏:‏ وهذا منسوخ بآية السيف‏.‏ وليس هذا القول بشيء، فإن في إطعام الأسير المشرك ثواباً، وهذا محمول على صدقة التطوع‏.‏ فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏ أي‏:‏ لطلب ثواب الله‏.‏ قال مجاهد، وابن جبير‏:‏ أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في ذلك راغب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا نريد منكم جزاءً‏}‏ أي‏:‏ بالفعل ‏{‏ولا شكوراً‏}‏ بالقول ‏{‏إنا نخاف من ربنا يوماً‏}‏ أي‏:‏ ما في يوم ‏{‏عبوساً‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ تعبس فيه الوجوه، فجعله من صفة اليوم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في يومٍ عاصفٍ‏}‏ ‏[‏إِبراهيم‏:‏ 18‏]‏، أراد‏:‏ عاصف الريح‏.‏ فأما «القمطرير» فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ أنه الطويل‏.‏ وروى عنه العوفي أنه قال‏:‏ هو الذي يقبِّض فيه الرجل ما بين عينيه‏.‏ فعلى هذا يكون اليوم موصوفاً بما يجري فيه، كما قلنا في «العبوس» لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ «القمطرير» الذي يقلِّص الوجوه، ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو الشديد‏.‏ يقال يوم قمطرير، ويوم قماطر‏.‏ وأنشدني بعضهم‏:‏

بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرونَ بَلاَءَنَا *** عليكُم إذا ما كان يَوْمٌ قُماطِرُ

وقال أبو عبيدة‏:‏ العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعَصِيب، والعَصَبْصَب‏:‏ أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوقاهم الله شَرَّ ذلك اليوم‏}‏ بطاعتهم في الدنيا ‏{‏ولقَّاهم نَضْرَةً‏}‏ أي‏:‏ حُسْنَاً وبياضاً في الوجوه ‏{‏وسُرُورَاً‏}‏ لا انقطاع له‏.‏ وقال الحسن‏:‏ النَّضْرة في الوجوه‏.‏ والسُّرُور في القلوب ‏{‏وجزاهم بما صبروا‏}‏ على طاعته، وعن معصيته ‏{‏جَنَّةً وحريراً‏}‏ وهو لباس أهل الجنة ‏{‏متكئين فيها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على الحال، أي‏:‏ جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها، وقد شرحنا هذا في ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يرَوْنَ فيها شمساً‏}‏ فيُؤذيهم حَرُّها ‏{‏ولا زمهريراً‏}‏ وهو البرد الشديد‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يجدون فيها الحَرَّ والبرد‏.‏ وحكي عن ثعلب أنه قال‏:‏ الزمهرير‏:‏ القمر، وأنشد‏:‏

وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَد اعْتَكَرْ *** قَطَعْتُهَا وَالزّمْهَريرُ مَا زَهَر

أي‏:‏ لم يطلع القمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودانيةً‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ وجزاهم جنة، ودانيةً عليهم ظلالها، أي‏:‏ قريبة منهم ظلال أشجارها ‏{‏وذُلِّلَت قُطوفُها تذليلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إِذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تَدَلَّتْ إليه حتى يتناولَ ما يريد‏.‏ وقال غيره‏:‏ قُرِّبَتْ إليهم مُذَلَّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها قياماً، وقعوداً، ومضطجعين، فهو كقوله تعالى ‏{‏قطوفها دانية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فأما «الأكواب» فقد شرحناها في ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏كانت قواريرا‏}‏ أي‏:‏ تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من فضة، قال ابن عباس‏:‏ لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلتَها مثل جناح الذباب، لم يُرَ الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة‏.‏ وقال الفراء، وابن قتيبة‏:‏ هذا على التشبيه، المعنى‏:‏ كأنها من فضة، أي‏:‏ لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير‏.‏ وكان نافع، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ يقرؤون «قواريراً قواريراً» فَيَصِلُونَهما جميعاً بالتنوين‏.‏ ويقفون عليهما بالألف‏.‏ وكان ابن عامر وحمزة يَصِلاَنِهما جميعاً بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف‏.‏ وكان ابن كثير يَصِل الأول بالتنوين، ويقف عليه بالألف، ويَصِلُ الثاني بغير تنوين، ويقف بغير ألف‏.‏ وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ «سلاسل» و«قوارير قوارير» يَصِلُ الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف‏.‏ وكان أبو عمرو يقرأ الأول «قواريرا» فيقف عليه بالألف، ويصل بغير تنوين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الاختيار عند النحويين أن لا يصرف «قوارير» لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف‏.‏ ومن قرأ «قواريرا» يصرف الأول علامة رأس آية، وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية‏.‏ ومن صرف الثاني‏:‏ أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء لتُتْبِعَ اللفظ اللفظ، كما قالوا‏:‏ جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ‏.‏ وإِنما الخَرِبُ مِن نعت الجحر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قدَّروها تقديراً‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر «قُدِّروها» برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها‏.‏ وقرأ حميد، وعمرو بن دينار، «قَدَرُوها» بفتح القاف، والدال، وتخفيفها‏.‏

ثم في معنى الآية قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ قَدَّرُوها في أنفسهم، فجاءت على ما قَدَّرُوا، قاله الحسن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جعل الإناء على قَدْر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم‏.‏

والثاني‏:‏ قَدَّروها على مقدارٍ لا يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد‏.‏ وقال غيره‏:‏ قَدَّر الكأس على قَدْر رِيِّهم، لا يزيد عن رِيِّهم فيُثْقِلُ الكفَّ، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة، وهذا ألذُّ الشراب‏.‏ فعلى هذا القول يكون الضمير في «قدَّروا» للسقاة والخدم‏.‏ وعلى الأول للشاربين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُسْقَوْن فيها‏}‏ يعني في الجنة ‏{‏كأساً كان مزاجها زنجبيلا‏}‏ والعرب تضرب المثل بالزنجبيل، والخمر، ممزوجَين‏.‏

قال المسيَّب بن عَلسَ يصف فم امرأة‏:‏

فَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيل بِهِ *** إذْ ذُقْتَهُ وَسُلاَفَةُ الخَمْرِ

وقال آخر‏:‏

كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِي *** ل باتا بِفِيها وأرْيَاً مُشَاراً

الأَرْي‏:‏ العسل‏.‏ والمشار‏:‏ المستخرج من بيوت، النحل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ والزنجبيل‏:‏ اسم العين التي منها شراب الأبرار، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ الزنجبيل معرَّب‏.‏ وقال الدِّيْنَوَرِي‏:‏ يَنْبُتُ في أرياف عُمَان، وهي عروق تسري في الأرض، وليس بشجرة تؤكل رُطَباً‏.‏ وأجود ما يحمل من بلاد الصين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور‏.‏ وقيل‏:‏ شراب الجنة عل بردِ الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عيناً فيها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يسقون عيناً‏.‏ وسلسبيل‏:‏ اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية‏.‏ وهو في اللغة‏:‏ صفة لما كان في غاية السلاسة، فكأن العين وصفت وسميت بصفتها‏.‏ وقرأتُ على شيخنا أبي منصور اللغوي قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسمى سلسبيلاً‏}‏ قيل‏:‏ هو اسم أعجمي نَكِرَة، فلذلك انصرف‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم معرفة، إلا أنه أُجْرِيَ، لأنه رأس آية‏.‏ وعن مجاهد، قال‏:‏ حديدة الجرية‏.‏ وقيل‏:‏ سلسبيل سلس ماؤها، مستقيد لهم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ السلسبيل صفة للماء‏.‏ لِسَلَسِهِ وسهولة مدخله في الحلق‏.‏ يقال‏:‏ شراب سَلْسَل، وسَلْسال، وسَلْسَبِيل‏.‏ وحكى الماوردي‏:‏ أن عليّاً قال‏:‏ المعنى‏:‏ سَلْ سَبِيلاً إليها، ولا يصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويطوف عليهم ولدان مخلَّدون‏}‏ قد سبق بيانه ‏[‏الواقعة‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏إذَا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً‏}‏ أي‏:‏ في بَيَاضِ اللؤلؤ وحُسْنِهُ، واللؤلؤُ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظراً‏.‏ وإنما شُبِّهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة‏.‏ ولو كانوا صَفْاً لَشَبَّهوه بالمنظوم‏.‏ ‏{‏وإذا رأيتَ ثَمَّ‏}‏ يعني‏:‏ الجنة ‏{‏رأيتَ نعيماً‏}‏ لا يوصف و‏{‏مُلكاً كبيراً‏}‏ أي‏:‏ عظيماً واسعاً لا يريدون شيئاً إِلا قدَروا عليه، ولا يدخل عليهم ملَك إلا باستئذان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَالِيَهُم‏}‏ قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا أن الجعفي، عن أبي بكر قرأ «عَالِيَتُهُم» بزيادة تاء مضمومة‏.‏ وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد، وقتادة، «عَلَيْهِم» بفتح اللام، وإسكان الياء من غير تاءٍ، ولا ألف‏.‏

قال الزجاج‏:‏ فأما تفسير إعراب «عالِيْهم» بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء‏.‏ ويكون الخبر ‏{‏ثيابُ سُنْدُسٍ‏}‏ وأما «عَالِيَهم» بفتح الياء فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما من الهاء والميم‏.‏ والمعنى‏:‏ يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون عَالِيَاً للأبرار ثيابُ سندس، لأنه وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى‏:‏ يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من الوِلْدان‏.‏ المعنى إذا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً في حال عُلُوِّ الثياب‏.‏ وأما «عَالِيَتُهُم» فقد قرئت بالرفع وبالنصب‏.‏ وهما وجهان جَيِّدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف‏.‏

فلا أرى القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير «عاليهم»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ‏}‏ قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، «خضر» رفعا «وإِسْتَبْرقٍ» خفضاً‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «خُضْرٍ» خفضاً «وإستبرقٌ» رفعا‏.‏ وقرأ نافع، وحفص عن عاصم «خُضْرٌ وإستبرقٌ» كلاهما بالرفع‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، «خضْرٍ وإسْتَبْرقٍ» كلاهما بالخفض‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «خُضْرٌ» بالرفع فهو نعت الثياب، ولفظ الثياب لفظ الجمع‏.‏ ومن قرأ «خُضْرٍ» فهو من نعت السندس، والسندسُ في المعنى راجع إلى الثياب‏.‏ ومن قرأ «وإستَبْرَقٌ» فهو نسق على «ثيابٌ» المعنى‏:‏ وعليهم إستبرق‏.‏ ومن خفض، عطفه على السندس، فيكون المعنى‏:‏ عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بَيّنَّا في ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏ معنى السندس، والإستبرق، والأساور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسقاهم رَبُّهم شراباً طهوراً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يُحْدِثون ولا يَبُولُون عن شُرْب خَمْر الجَنَّة، قاله عطية‏.‏

والثاني‏:‏ لأن خمر الجنة طاهرةٌ، وليست بنجسةٍ كخمرِ الدنيا، قاله الفراء‏.‏ وقال أبو قلابة‏:‏ يُؤْتَوْنَ بعد الطَعام بالشَّرابِ الطَّهورِ فيشربون فَتَضْمُر بذلك بُطونُهم، ويفيض من جلودهم عَرقٌ مثل ريح المسك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ هذا‏}‏ يعني‏:‏ ما وصف من نعيم الجنة ‏{‏كان لكم جزاءً‏}‏ بأعمالكم ‏{‏وكان سعيُكم‏}‏ أَي‏:‏ عملكم في الدنيا بطاعته ‏{‏مشكوراً‏}‏ قال عطاء‏:‏ يريد شكرتُكم عليه، وأَثَبْتُكم أفضل الثواب ‏{‏إنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلاً‏}‏ أي‏:‏ فضَّلناه في الإنزال، فلم نُنْزِلْه جُمْلَةً واحدةً ‏{‏فاصبر لحكم ربك‏}‏ وقد سبق بيانه في مواضع ‏[‏الطور‏:‏ 48، والقلم‏:‏ 48‏]‏‏.‏ والمفسرون يقولون‏:‏ هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، ‏{‏ولا تُطِعْ منهم‏}‏ أي‏:‏ من مشركي أهل مكة ‏{‏آثماً أو كفوراً‏}‏ «أو» بمعنى‏:‏ الواو، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو الحوايا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ وقد سبق هذا وللمفسرين في المراد بالآثم والكفور ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهما صفتان لأبي جهل‏.‏

والثاني‏:‏ أن الآثم‏:‏ عتبة بن ربيعة، والكفور‏:‏ الوليد بن المغيرة‏.‏

والثالث‏:‏ الآثم‏:‏ الوليد‏.‏ والكَفُور‏:‏ عتبة‏.‏ وذلك أنهما قالا له‏:‏ ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج‏.‏ ‏{‏واذكر اسم رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ اذكره بالتوحيد في الصلاة ‏{‏بُكْرَةً‏}‏ يعني‏:‏ الفجر ‏{‏وأصيلاً‏}‏ يعني‏:‏ العصر‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ صلاة الظهر والعصر ‏{‏ومن الليل فاسْجُدْ له‏}‏ يعني‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وسَبِّحهُ ‏{‏ليلاً طويلاً‏}‏ وهي‏:‏ صلاة الليل، كانت فريضة عليه، وهي لأُمَّتِهِ تَطَوُّع ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ يعني‏:‏ كفَّار مكة ‏{‏يحبُّون العاجلة‏}‏ أي‏:‏ الدار العاجلة، وهي‏:‏ الدنيا ‏{‏ويَذَرُون وراءهم‏}‏ أي‏:‏ أمامهم ‏{‏يوماً ثقيلاً‏}‏ أي‏:‏ عسيراً شديداً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له‏.‏ ثم ذكر قدرتَه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏نحن خلقناهم وشَدَدَنا أسرهم‏}‏ أي‏:‏ خَلْقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال امرأة حَسَنَةُ الأسر‏.‏ أي‏:‏ حَسَنَةُ الخَلْقِ، كأنها أُسِرتْ، أي‏:‏ شُدَّتْ‏.‏ وأصل هذا من الإسار، وهو‏:‏ القِدُّ‏.‏ ‏[‏الذي تشد به الأقتاب‏]‏ يقال‏:‏ ما أحسن ما أَسَر قَتَبَهُ، أي‏:‏ ما أحسن ما شَدَّه ‏[‏بالقِدِّ‏]‏‏.‏

وروي عن أبي هريرة قال‏:‏ مفاصلهم‏.‏ وعن الحسن قال‏:‏ أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب ‏{‏وإذا شئنا بّدَّلنا أمثالهم‏}‏ أي‏:‏ إن شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم ‏{‏إنَّ هذه تذكرة‏}‏ قد شرحنا الآية في ‏[‏المزمل‏:‏ 19‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تشاؤون‏}‏ إيجاد السبيل ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ ذلك لكم‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «وما يشاؤون» بالياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَنْ يشاء في رحمته‏}‏ قال المفسرون‏:‏ الرحمة‏:‏ هاهنا الجنة ‏{‏والظالمين‏}‏ المشركون‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ نصب «الظالمين» بالجوار‏.‏ المعنى‏:‏ ولا يُدخل الظالمين في رحمته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنما نصب «الظالمين»، لأنَّ قبله منصوباً‏.‏ المعنى‏:‏ يُدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين‏.‏ ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعدَّ لهم‏}‏ تفسيراً لهذا المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة، «والظالمون» رفعاً‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 50‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، رواه أبو العُبَيْدَينِ، عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال أبو هريرة، ومقاتل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هي الملائكة‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ «عُرْفاً» فيقال‏:‏ أُرْسِلتْ بالمعروف، ويقال‏:‏ تَتَابَعَتْ كعُرْفِ الفَرَسِ‏.‏ والعرب تقول‏:‏ يركب الناس إلى فلان عُرْفاً واحداً‏:‏ إِذا توجهوا إليه فأكثروا‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسَل به‏.‏ وأصله من عُرْف الفَرَسِ، لأنه سطر مستوٍ بعضه في إِثر بعض، فاستعير للقوم يتبع بعضُهم بعضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، وهذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ الملائكة والريح، قاله أبو عبيدة‏.‏ قال‏:‏ ومعنى «عُرْفاً»‏:‏ يتبع بعضها بعضاً‏.‏ يقال‏:‏ جاؤوني عُرْفاً‏.‏ وفي ‏{‏العاصفات‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة، قاله مسلم بن صبيح‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تعصف بروح الكافر‏.‏ وفي «الناشرات» خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح‏.‏

والثالث‏:‏ الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع‏.‏

والخامس‏:‏ المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي‏.‏

وفي «الفارقات» أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الملائكة تأتي بما يفرِّق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ آي القرآن فَرَّقَتْ بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان‏.‏

والثالث‏:‏ الريح تفرّق بين السحاب فتبدِّدُه، قاله مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ الرسل، حكاه الزجاج‏.‏

‏{‏فالملقيات ذكراً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ الرسل يلقون ما أُنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عُذْراً أو نُذْراً‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «عُذْراً» خفيفاً «أو نُذُراً» مثقلاً‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف «عُذْراً أو نُذْراً» خفيفتان‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو مصدر، مثقَّلاً كان أو مخفّفاً‏.‏ ونصبه على معنى‏:‏ أُرسلتُ بما أرسلتُ به إِعذاراً من الله وإنذاراً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ فالملقياتِ عُذراً أو نُذراً‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار‏.‏ وهذه المذكورات مجرورات بالقسم‏.‏ وجواب القسم ‏{‏إنَّما تُوعَدُون لواقع‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إنَّ ما توعَدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لَواقِعٌ، أي‏:‏ لكائن‏.‏ ثم ذكر متى يقع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا النجوم طُمست‏}‏ أي‏:‏ مُحِيَ نُورُها ‏{‏وإذا السماءُ فُرِجَتْ‏}‏ أي‏:‏ شُقَّتْ ‏{‏وإذا الجبال نُسِفَتْ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ ذُهِبَ بها كلُّها بسرعة‏.‏ يقال‏:‏ انتسفتُ الشيء‏:‏ إذا أخذتَه بسرعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا الرسل أُقِّتَتْ‏}‏ قرأ أبو عمر «وُقِّتَتْ» بواو مع تشديد القاف‏.‏ ووافقه أبو جعفر، إلا أنه خَفَّفَ القاف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «أُقِّتت» بألف مكان الواو مع تشديد القاف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ بمعنى واحد‏.‏ فمن قرأ «أُقِّتت» بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو‏.‏ وكل واو انضمت، وكانت ضمتها لازمة، جاز أن تبدل منها همزة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الواو إذا كانت أول حرف، وضُمَّتْ، همزت‏.‏ تقول‏:‏ صلى القوم أُحداناً‏.‏ وهذه أُجوهٌ حسان‏.‏ ومعنى «أُقِّتت»‏:‏ جمعت لوقتها يوم القيامة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ جمعت لوقت، وهو يوم القيامة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأي يوم أُجِّلَتْ‏}‏ أي‏:‏ أُخِّرَتْ‏.‏ وضَرْبُ الأجل لجمعهم، يعجِّب العباد من هول ذلك اليوم، ثم بَيَّنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليوم الفصل‏}‏ وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق‏.‏ ثم عَظَّم ذلك اليوم بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ بالبعث‏.‏ ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذِّبة، فقال‏:‏ ‏{‏ألم نُهْلِكِ الأوَّلين‏}‏ يعني بالعذاب في الدنيا حين كذَّبوا رسلهم ‏{‏ثم نُتْبِعُهم الآخِرين‏}‏ والقراء على رفع العين في «نتبعُهم»، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين‏.‏ قال الفراء‏:‏ «نتبعهم» مرفوعة‏.‏ ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود «وسنتبعهم الآخرين»‏.‏ ولو جزمتَ على معنى‏:‏ ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجهاً جيداً، وقال الزجاج‏:‏ الجزم عطف على «نُهْلكْ»، ويكون المعنى‏:‏ لمن أُهلك أولاً وآخراً‏.‏ والرفع على معنى‏:‏ ثم نتبِع الأول الآخر من كل مجرم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ثم نتبعهم الآخرين‏:‏ يعني‏:‏ كفار مكة حين كذَّبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ الأوَّلون‏:‏ قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون‏:‏ قوم إبراهيم، ولوط، ومَدْيَن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك ‏{‏نفعل بالمجرمين‏}‏ يعني‏:‏ المكذِّبين‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الفائدة في تكرار قوله تعالى ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئاً قال‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ بهذا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نخلقكم‏}‏ قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف‏.‏ وقرأ الباقون بإدغامها‏.‏

قوله تعالى ‏{‏من ماءٍ مهينٍ‏}‏ أي‏:‏ ضعيف ‏{‏فجعلناه في قرارٍ مكين‏}‏ يعني‏:‏ الرحم ‏{‏إلى قََدرٍ معلومٍ‏}‏ وهو مدة الحمل ‏{‏فَقَدَرْنا‏}‏ قرأ أهل المدينة، والكسائي «فَقَدَّرْنَا» بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتخفيف‏.‏ وهل بينهما فرق‏؟‏

فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهما لغتنان بمعنى واحد‏.‏ قال الفراء‏:‏ تقول العرب‏:‏ قَدَر عليه، وقَدَّر عليه‏.‏ وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال‏:‏ لو كانت مشددة لقال‏:‏ فنعم المقدِّرون، فأجاب الفراء فقال‏:‏ قد تجمع العرب بين اللغتين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمهل الكافرين أمهلهم رويدا‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 17‏]‏ قال الشاعر‏:‏

وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ *** مِنَ الحَوادِثِ إِلا الشَّيْبَ والصَّلَعَا

يقول‏:‏ ما أنكرت إلا ما يكون في الناس‏.‏

والثاني‏:‏ أن المخفَّفة من القُدْرَة والملك، والمشدَّدة من التقدير والقضاء‏.‏ ثم بيَّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحِّدوه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض كِفَاتاً‏}‏ قال اللغويون‏:‏ الكفت في اللغة‏:‏ الضم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ اكفتْ هذا إليك، أي‏:‏ ضمه‏.‏ وكانوا يسمون بقيع الغرقد‏:‏ كفتة، لأنه مقبرة يضم الموتى‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏أحياءً وأمواتاً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ تكفتهم أحياءً وأمواتاً، قاله الجمهور‏.‏ قال الفراء‏:‏ وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت‏:‏ ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما يقرأ ‏{‏أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة يتيماً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقال الأخفش انتصب على الحال‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات والعمارة، وأمواتاً بالخراب واليبس، هذا قول، مجاهد، وأبي عبيدة‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وجعلنا فيها رواسي‏}‏ قد سبق بيانه ‏{‏شامخات‏}‏ أي‏:‏ عاليات‏:‏ ‏{‏وأسقيناكم‏}‏ قد سبق معنى «أسقينا»، ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏:‏ والجن‏:‏ 16‏]‏ ومعنى «الفرات» ‏[‏الفرقان‏:‏ 53، وفاطر‏:‏ 12‏]‏ والمعنى‏:‏ أن هذه الأشياء أعجب من البعث‏.‏ ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة‏:‏ ‏{‏إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذِّبون‏}‏ في الدنيا، وهو النار، ‏{‏انطلقوا إلى ظلٍّ‏}‏ قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر‏.‏ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي‏.‏ قال ابن قتيبة و«الظل» هاهنا‏:‏ ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدُّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم‏:‏ كونوا فيه إِلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار ‏{‏لا ظليل‏}‏ أي‏:‏ لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس‏.‏ قال مجاهد‏:‏ تكون شعبة فوق الإِنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الشعب الثلاث‏:‏ هي الضَّريع، والزَّقوم، والغِسْلين‏.‏ فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يغني من اللَّهَب‏}‏ أي‏:‏ لا يدفع عنكم لَهَبَ جهنم‏.‏ ثم وصف النار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنها تَرْمي بِشَرَرٍ‏}‏، وهو جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً ‏{‏كالقَصْر‏}‏ قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيَّة‏.‏ وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ وهو قول الجمهور‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء، «كالقَصَر» بفتح الصاد‏.‏ وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال‏:‏ كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء، فنسميه‏:‏ القصر‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ من فتح الصاد أراد‏:‏ أُصول النخل المقطوعة المقلوعة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أراد أعناق الإبل‏.‏ وقرأ سعد ابن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وابن يعمر «كالقَصِر» بفتح القاف، وكسر الصاد‏.‏

وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي، «كالقُصُر» برفع القاف والصاد جميعاً‏.‏ وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير «كالقِصَر» بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نُهيك، ومعاذ القارئ، «كالقُصْر» بضم القاف وإسكان الصاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنه جِمَالاَتٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «جِمالاَتٌ» بألف‏.‏ وكسر الجيم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «جِمَالَةُ» على التوحيد‏.‏ وقرأ رويس عن يعقوب «جُمَالاَت» بضم الجيم‏.‏ وقرأ أبو رزين، وحميد، وأبو حيوة، «جُمَالة» برفع الجيم على التوحيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ «جِمالات» بالكسر، فهو جمع جِمَال، كما تقول‏:‏ بُيوت، وبُيوتَات، وهو جمع الجمع، فالمعنى‏:‏ كأن الشرارات كالجمالات‏.‏ ومن قرأ ‏{‏جُمالات‏}‏ بالضم، فهو جمع «جمالة» ومن قرأ «جِمالةً» فهو جمع جَمَل وجِمالة، كما قيل‏:‏ حَجر، وحِجَارة، وذَكَر، وذِكَارَة، وقرئت «جُمالة» على ما فسرناه في جُمالات بالضم‏.‏ و«الصُّفْر» هاهنا‏:‏ السود‏.‏ يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة‏:‏ إِبل صُفْرٌ‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الصُّفْر‏:‏ سود الإبل لا يُرى الأسود من الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً، فلذلك سَمَّتْ العرب سود الإبل‏:‏ صُفْراً، كما سَمَّوا الظباء‏:‏ أدماً لما يعلوها من الظلمة في بياضها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يومُ لا ينطقون‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا في بعض مواقف القيامة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ تكلَّموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلَّمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون بحجة تَنْفَعُهم‏.‏ وقرأ أبو رجاء، والقاسم ابن محمد والأعمش، وابن أبي عبلة «هذا يومَ لا ينطقون» بنصب الميم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم الفصل‏}‏ أي‏:‏ بين أهل الجنة وأهل النار ‏{‏جمعناكم‏}‏ يعني‏:‏ مكذِّبي هذه الأمة و‏{‏الأوَّلين‏}‏ من المكذِّبين الذين كذَّبوا أنبياءَهم ‏{‏فإن كان لكم كيد فكيدونِ‏}‏ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، أي‏:‏ إن قَدَرْتُم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم‏.‏ ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المتَّقين في ظِلال‏}‏ يعني‏:‏ ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور ‏{‏وعيون‏}‏ الماء، وهذا قد تقدَّم بيانه، إلى قوله تعالى ‏{‏كلوا‏}‏ أي‏:‏ ويقال لهم‏:‏ كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله‏.‏ ثم قال لكفار مكة‏:‏ ‏{‏كلوا وتمتعوا قليلاً‏}‏ في الدنيا إِلى منتهى آجالكم ‏{‏إِنكم مجرمون‏}‏ أي‏:‏ مشركون بالله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه حين يُدْعَون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم‏:‏ اركعوا، أي صلوا ‏{‏لا يركعون‏}‏ أي‏:‏ لا يصلُّون‏.‏ وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح‏.‏ وقيل نزلت‏:‏ في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا‏:‏ لا نحني، فإنها مَسَبَّةٌ علينا، فقال‏:‏ لا خير في دين ليس فيه ركوع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ إن لم يصدِّقوا بهذا القرآن، فبأيِّ كتاب بعده يصدِّقون، ولا كتاب بعده‏:‏ ‏!‏